كانت تقفُ كل يوم على ذلك الجسر المؤدي للمدينة، تتفحصُ العابرين، وتجاورُ البائعين.
في مرةٍ خطر لها أن تعزف الكمان أثناء وقوفها، هي ليست بارعة جداً، لكنها ليست سيئة. في اللحن الأول بدأ الناسُ يلحظون وجودها، بعدهُ بقليل وقف شخصٌ ثم آخر، زاد الجمعُ وصارت الحلقة تتسعُ رويدا. نغماتها كانت تنسابُ إلى القلوب سريعاً، كانت تعزفُ وتغني، تسمعُ صوتها عالياً فتُخفضُ منهُ قليلاً، تُحاذرُ أن تخرج عن اللحن أو أن تتعثر في السلم الموسيقي، وتحرصُ على الطبقة المناسبة من طبقات صوتها. هذا الذي كان يشغلها، أما المستمعون فكانوا منقسمين بين إعجابٍ بعزفها، وشفقة على الفتاة التي تفتح فمها وكأنها تغني، لكن بلا غناء! لم يكن أحدٌ يسمع صوتها، فقط هو ذاك الفم المفتوح الذي لا يُخرجُ إلا الهواء.
اقترب من خلفها بائع المثلجات ووضع على الأرض أمامها قبعةً مقلوبة، عرفت السبب لاحقاً عندما امتلأت القبعة بالنقود. الناس كريمون حين يكونون سعداء، هذا ما عرفتَهُ ذلك اليوم.
استمرت بالعزف، ولفتها أن فتى المثلجات رجع لبضاعته وكأن الأمر لا يعنيه! وضع القبعة ورجع سريعاً ولم يتوقف لسماعها لحظة.
انفض الناس بعدما توقفت، ورجعت إلى بيتها حزينة. لم تجدهُ اليوم أيضاً. لكن المال الذي لفتهُ بالمنديل كان لها عزاءً من نوعٍ آخر. على الأقل لم ترجع خاوية اليدين ككل مرة.
في الغد خرجت مبكرة وهي تحمل آلتها، وحين وصلت الجسر صافحها بائع المثلجات من بعيدٍ بابتسامةٍ وهو يرفع القبعة لها. ردت بابتسامة قبول مقرونة بهزةٍ خفيفةٍ برأسها، اقترب الشاب ووضع القبعة أمامها فيما كانت تُسندُ الكمان على رقبتها وتحضنهُ بخدها وكأنما تبعثُ فيه الدفء. التفتت فرأت الشاب قد عاد إلى مكانه عكس المارة الذين بدأوا بالتجمع حولها. افتتحت عزفها باللحن الأول فعلا الحماس وبدأت بعض الكفوف بالتصفيق، شرعت بالغناء باندماجٍ لكن ذلك لم يُحدث فرقا، الحشودُ حولها لا تسمعُ إلا صوت القوس وهو يسترضي الأوتار فترفعُ عليه صوت العتاب. فمها لا زال مملوءاً بالهواء فقط!
بمرور الأيام بات العزف مصدر رزقها، بعدما كان هامشاً في حياتها. قبلاً لم تكن تعزف إلا حين تكون لوحدها، تتذكر جيداً أول مرة عزفت فيها كيف فاجأها كم النقود الذي تهاطل بداخل القبعة. القبعة! لطيف ذاك الشاب قليل الكلام، لم يعد يأخذ القبعة منها نهاية كل يوم، لم تعد تحتاج منديلاً لتلف النقود به، فقد صارت تأخذ القبعة بما فيها. قد قدّمها لها هدية وهي لم تشعر حتى!
للمرة الأولى في حياتها أصبح لديها مالاً، هي لا تعرف كيف تنفقه فضلاً عن كسبه. (حسناً، سأشتري ما أحتاج. لكن ما الذي أحتاجه؟ لا يهم، سأعرفُ يوماً)
بدأت كل مساء بعد عودتها للمنزل تحسب النقود؛ تفرحُ إن كان وفيراً، وتغضب إن كان عكس ذلك، بل وتنقمُ على أولئك البخلاء الذين يستمتعون بعزفها ولا يمنحون إلا قليلا. باتت لا تتحسر على عدم إيجاد حبيبها إلا نادراً، كادت تنسى لولا بقايا حنين تتحرك في مهجتها قبل شروعها في النوم.
في ذلك اليوم حضرت متأخرة، فور أن وضعت قدمها على أول الجسر فوجئت ببائع المثلجات يركض باتجاهها، ما أن توقف أمامها حتى أمسك بيديها وهو ينظر إليها نظرة استعطاف. فهمت من ابتسامته المنكسرة ودفء يديه أنهُ قلقٌ عليها. أشارت لهُ بأنها كانت تعبةً في الأيام السابقة لذا لم تأتِ. صوتها كان محبوساً فلا يصلحُ للغناء، قالت هذا وهي تضحكُ في داخلها، وكأن أحداً يسمعهُ أصلاً! رجع الشاب لمكانه مطمئناً، واتخذت هي مكانها المعتاد وهي تحدث نفسها:(عجيبٌ أمره، لم ينبس بكلمة!)
في الغد كانت جاهزةٌ للخطوة التالية؛ سترتدي فستاناً جديداً اشترته حديثاً. كان الفستان مثيراً بصدرهِ الواسع والشق في جنبه الذي يُظهرُ أكثر مما يُخفي. ما أن وصلت إلى الجسر حتى سمعت بعض الشهقات والصفير. حضنت آلتها وابتدأت بالعزف، أخذت تتمايل وتثني جسدها بأنوثةٍ طاغية، وتحرصُ أن تمدَّ ساقها ليخرج من فتحة الفستان. لم تربط شعرها وتعمدت أن تتركه منسدلاً على كتفيها الظاهرين، كانت تعزف وتهز رأسها بقوةٍ لتتطاير الخصلات مع الهواء، مع حركاتها كان الشعر ينساب على جبينها فتخفض رأسها لينزل أكثر ويغطي بعض وجهها، ثم بحركةٍ خاطفةٍ للوراء ترجعهُ بالكامل خلفها. شعرها الليلي على جيدها الناصع البياض، وفستانها الحالك السواد بما يحويه من فتحاتٍ تُظهرُ بياض جسدها كانا كالليلِ الذي تُخالطُ سماءهُ السوداء ومضات برقٍ يكاد يخطف الأبصار!
اليوم كانت فاتنة بحق، ولا عجب أن كان الزحام حولها أضعاف المعتاد، الحضور اليوم يسمعونها بأعينهم أيضاً! حتى بائع المثلجات تجرأ واقترب من الحشد للمرة الأولى.
المالُ وفيرٌ للغاية اليوم، الفستان لعب دوراً هاماً في ذلك. انشغلت بعدِّ النقود حين عادت لمنزلها ولم تفكر أنها لم تجد الرجل المنشود اليوم أيضاً! بدا وكأن المال هو العوض المناسب عنه.
لم يعد ذلك الفستان المفتوح هو الوحيد في خزانتها، تعددت الفساتين وتعددت الفتحات. أصبحت تسمع الناس ينادونها بلقب “العازفة الحسناء” بدلاً من الخرساء. يبدو أن فتنتها غلبت براعتها بالعزف، (لا يهم، كلها تصبُ في مصلحتي)، قالت ذلك وهي تبتسم بخبث.
ذاع صيت الفتاة في المدينة، وفي أحد الأيام تقدم إليها رجل ذو هندامٍ مرتب وعرض عليها أن تعزف في الحانة الخاصة به، سيكون عقداً طويلاً، وستكون لها فقرتها الخاصة كل ليلة. والجسر لم يعد ملائماً لمكانتها وشهرتها. فكرت أن ترفض خوفاً من الفكرة، لكن المبلغ المعروض كان لا يمكن رفضه. بعد رحيل الرجل أخذت تتأمل الجسر بمن فيه، بدا شعور الفقد ينتابها منذ اللحظة. كانت تشعر وكأن المكان بيتها والمارة عائلتها، وبائع المثلجات بالذات.
نظرت إلى مكانه فلم تجده اليوم أيضاً، لليوم الثالث على التوالي لم يحضر. كيف ستبلغه عن قرارها ووجهتها؟ كانت تود أن تستشيرهُ أيضاً. مشت إلى أحد البائعين وبيديها أشارت تسألهُ عنه:
- أين بائع المثلجات الذي يقف هناك؟
فاجأها حين أخبرها بأن لا أحد يبيع المثلجات في هذا المكان منذ سنة أو تزيد.
أخذت تصف شكله للبائع فهتف قائلاً:
- آها.. تقصدين الشاب الأصم.. نعم عرفته.
أشارت بيديها متسائلةً: أهو أصم؟
رد: نعم، وأبكم!
ابتعدت قليلاً وهي تُحدث نفسها، الآن عرفتْ لم لم يكن مهتماً بسماع عزفها.
أشارت بيديها مرةً أخرى: أين هو الآن؟
- قال: لا أعلم، يقولون إنه رحل، فهو ليس من هنا، ولم يكن يبيع شيئاً بل كان يحضر ليراكِ فقط!
لوهلةٍ أحست وكأنها فقدت شيئاً مهماً. رحلت والحزنُ يكاد يلتهم قلبها، ستترك الجسر وقد فقدت صديقها ولم تجد حبيبها بعد! الآن أدركت أن الله يحقق الأماني بصورةٍ مختلفة عن الذي نتوقعه، وتكون أجمل. فقد بحثت عن حبيب يسمع صوتها فاكتشفت أن عزفها هو صوتها، وأن حبيبها ذاته لم يكن رجلاً، بل هم جمهورها الذين يسمعون صوتها ذاك كأحسن ما يكون الاستماع.
من ذلك اليوم لم تعد تغني أثناء العزف، ولم يعد فمها مملوءٌ بالهواء.