فجع الموتُ الأديب “أحمد حسن الزيات” في ابنه “رجاء” ذو الأربع سنوات. فمزقَ الفقدُ فؤاده ، ودفن الحزنُ هناءه ، وتضاءلت السعادةُ حتي كادت لا تُرى ، وتوارى الفرحُ خجلاً كخجلِ الحاضرِ بلا دعوة . وكيف يُدعى الفرحُ والفقدُ قد غلّقَ الأبواب ، وسدَّ المنافذ . حينها كتب الزيات نصاً يتوجد|ُ فيه على فلذة كبده ، أُعتبر فيما بعد من عيون النثر العربي ومن فرائده . نقرأُ بعضهُ هنا :
ياقارئي أنت صديقي فدعني أُرقْ على يديك هذه العبرات الباقية !
هذا ولدي كما ترى، رزقته على حال عابسة كاليأس، وكهولة يائسة كالهرم، وحياة باردة كالموت. فأشرق في نفسي إشراق الأمل، وأورق في عودي إيراق الربيع، وولد في حياتي العقيمة معاني الجدَّة والاستمرار والخلود !
كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان، أنشد الراحة ولا أجد الظل، وأفيض المحبة ولا أجد الحبيب، وألبس الناس ولا أجد الأنس، وأكسب المال ولا أجد السعادة، وأعالج العيش ولا أدرك الغاية.
فلما جاء (رجاء) وجدتني أولد فيه من جديد. فأنا أنظر إلى الدنيا بعين الخيال، وأبسم إلى الوجود بثغر الأطفال. وأضطرب في الحياة اضطراب الحي الكامل، يدفعه من ورائه طمع، ويجذبه من أمامه طموح ! .. شعرت بالدم الحار يتدفق نشيطا في جسمي، وبالأمل القوي ينبعث جديدا في نفسي، وبالمرح الفتي يضج لاهيا في حياتي، وبالعيش الكئيب تتراقص على حواشيه الخضر عرائس المنى ! .. فأنا ألعب مع (رجاء) بلعبه، وأتحدث إليه بلغته، وأتبع عقلي هواه فأدخل معه في كل ملهى دخول البراءة، وأطير به في كل روض طيران الفراشة.
شغل رجاء فراغي كله، وملأ وجودي كله، حتى أصبح هو شغلي ووجودي ! .. فهو صغيرا أنا، وأنا كبيرا هو. يأكل فأشبع، ويشرب فأرتوي، وينام فأستريح، ويحلم فتسبح روحي وروحه في إشراق سماوي من الغبطة لا يوصف ولا يحد. ماهذا الضياء الذي يشع في نظراتي؟ .. ماهذا الرجاء الذي يشيع في بسماتي؟ .. ماهذا الرضا الذي يغمر نفسي؟ .. ماهذا النعيم الذي يملأ شعوري؟ .. ذلك كله انعكاس حياة على حياة، وتدفق روح في روح، وتأثير ولد في والد.
ثم انقضت تلك السنون الأربع، فصوَّحت الواحة، وأوحش القفر، وأنطفأت الومضة وأغطش الليل، وتبدد الحلم وتجهم الواقع، وأخفق الطبُ ومات (رجاء) !
ياجبار السموات والأرض رحماك ! .. أفي مثل خفقة الوسنان تُبدّل الدنيا غير الدنيا، فيعود النعيم شقاء والملاء خلاء والأمل ذكرى؟ .. أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد، ويسكن البيت اللاعب، ويقبح الوجود الجميل؟
حنانيك يالطيف ! .. ماهذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر، ومزاقّ البطن؛ فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب؟ .. اللهم هذا القضاء فأين اللطف؟ .. وهذا البلاء فأين الصبر؟ .. وهذا العدل فأين الرحمة؟
إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده ! .. أشهد لقد جزعت عليه جزعا لم يغن فيه عزاء ولا عظة ! .. كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يُكبره ! .. وأستريح إلى النادبات يندبن القلب الذي مات والأمل الذي فات، والملك الذي رفع !
والهف نفسي عليه ساعة أخذته غصة الموت، وأدركته شهقة الروح، فصاح بملء فيه الجميل:
(بابا .. بابا!) كأنما ظن أباه يدفع عنه مالا يدفع عن نفسه !
لنا الله من قبلك ومن بعد يارجاء !